site admin Admin
عدد الرسائل : 2065 الموقع : USA تاريخ التسجيل : 09/09/2007
| موضوع: القيروان.. حاضرة الجمال في كل الفنون الأحد أغسطس 23, 2009 12:46 am | |
| كل مدينة تمثل تجربة حضارية مختلفة فالقيروان قد كانت بحق واسطة العقد الإسلامي غربي المتوسط. لذلك انبثقت من معمارها، وفقهها، وطبها، وعلومها، و"علوم الحيل" فيها، ومن شعرها ونثرها.. فنون شتى تعبر عن ملحمة الإنسان في كل من القيروان وسوسة والمنستير والمهدية، ومالطا، وصقلية وسردانيا وكورسيكا، ومختلف بلاد المغرب الأوسط والأقصى فضلا على مدن الأندلس قاطبة.
لقد تولدت فنون من الزخارف والصنائع والحرف المختلفة، حتى قال ابن ناجي صاحب معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان: "أما القيروان فهي البلد الأعظم، والمصر المخصوص بالشرف الأقدم، قاعدة الإسلام والمسلمين بالمغرب، وقطرهم الأفخر الذي أصبح لسان الدهر عن فضله يعرب، وبشرفه يغرب، قرارة الدين والإيمان، والأرض المطهرة من رجس الكافرين وعبدة الأوثان. قبلتها أول قبلة رسمت في البلاد المغربية، وسجد لله فيها سرا وعلانية".
لذلك يمكن أن نقول إنها قد جمعت بن علوم الآخرة وعلوم الدنيا، وإن أهلها كانوا حقا، تمثلا بما قاله ابن رشيق القيرواني: علماء إن ساءلتهم كشفوا العمى/ بفقاهة وفصاحة وبيان/ حلوا غوامض كل أمر مشكل/ بدليل حق واضح البرهان..
فالقيروان حاضرة الفن الجميل.. هذا يقين نسهو عنه في بعض أطوار تأمل هذه المدينة التي يمتعنا أن نعدها من رموزنا العربية الإسلامية دون أن نجتهد كثيرا في حفظ نصيبها من البهاء، رغم أنه من حق القيروان علينا أن نسعفها بمواصلة الحفاظ على الرؤية الفنية العريقة المنبثقة من الماء والحجر، ومن تراب القلالات ونيران الأفران، ورخام الدور القديمة، وجذوة المقابر الذاوية.
لقد تمكنت هذه القلعة التي بنيت في شكل حصن ثابت رفيع العماد من أن تسهم في استحداث أشكال فنية رفيعة المستوى في مجالات شتى، منها معالجة المعادن، من نحاس وذهب وفضة، ومنها تأهيل السروج وصياغة حريرها، ومنها التصرف في الجص ونقوش تزاويقه، ومنها تقطير العطور، وغوص الأزميل في خشب الزيتون والنخل والصندل، ومنها التأني في تراكيب عقد الزربية.. فضلا على توشية قوالب المقروض بآلاف الأشكال الهندسية التي نراها فوق المحاريب وواجهات الأبواب.. وتهاويل الخطوط العتيقة.
إننا في حالاتنا هذه كلها إزاء آيات من الفن الجميل الذي تسويه الجارحة بعد أن تكون الروح قد غاصت في إبداعه في الذهن والوجدان.
إن إحداث التآلف بين العناصر الأربعة، الماء والنار والهواء والتراب، هو الذي مكن أهل القيروان من معالجة الذهب والفضة والنحاس، حين كانت حاضرتهم تمثل سبل الشرق والغرب، والشمال والجنوب، تلتف حولها المداشر والقرى والمدن القريبة، هذه التي أصبح بعضها متلألئا بهيا، مثل مساكن وسيدي بوزيد، وقمودة، والوسلاتية والناظور وزغوان وسوسة وسليانة والمنستير.. وغيرها.
إن القيروان تمثل مقصدا ثابتا في احتفالات الأعراس، وليالي المولد النبوي، تلهب أحلام الصبايا بحلية جديدة أو لطائف من أواني البيوت قد أحسن الصانع صياغتها بيضاء أو صفراء بديعة ألوانها.
كذا إعداد السروج، الذي تلتقي فيه الحدادة بالنجارة، التقاء التطريز والرسم، ورقش الخشب ونقشه، وفتل الحبل الحريري.. لإعداد فتنة منه تسر الناظرين.. نسميها سرجا لأيام المسابقات تحكي مواعيد ماضية من حروب أو غارات أو هجمات.. لا يزال منا من يحن إليها في إحساس لطيف بذكراها الذاهبة.
كذا الأحذية بأنواعها، كذا الجص في فناء البيوت وواجهاتها، فضلا على أخشاب الأركان وجوانب السرير، وأبواب المقاصير، والمستراقات، والرتب في قلب المجلس... يغوص الأزميل في المادة يسويها، وتنغرز الإبرة في القماش تشحذ الإبداع الكامن فيه.. فتولد الحضارة من خلال رؤية فريدة ترسل الجسم على الروح وتصل الظاهر بالباطن. هكذا ازدهر نفخ الزجاج، ونقش النحاس المطروق، فغدا لكل من هذه الفنون حوانيتها، يوم كانت المدينة الإسلامية تنبثق من المسجد في وسطها، ثم دار الإمارة، وبيوت القواد والأمراء، فضلا على الدكاكين والأسواق الخاصة بالصناعات.
لكم نفخر اليوم بما كانت عليه أسواق القيروان، ورقادة، والعباسية، وصبرة المنصورية.. حين كان الأمراء يتنافسون في التشجيع على العمارة ونقش المنابر، أو تزويق الخناجر والأسلحة، او سك النقود..
يدعى المرء هنا إلى استحضار رسالة بحث تم إعدادها في نطاق معهد الفنون الجميلة بتونس حول "التجاور بين الفنون"، فغاصت في أمر اللقيا بين فنون الأرابيسك، والتوريق والنقر على العود.. على اعتبار وجود تناغم بين تعبيرات الحضارة المختلفة.. يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف ـ إلى سبر رؤية الإنسان والصلة بين الأرضي والإلهي من ناحية أخرى.. حيث تكون الفنون والحرف شاهدا على تصور الكائن عن نفسه، وحركته في الوجود.
حدث هذا في الحقب الفارطة، ويعنينا أن نشجع اليوم على استعادته، بتمثله من جديد، ودفعه إلى أن يكون.
وغني عن الإشادة أن هذه الفنون تنبثق من رؤية عميقة كامنة في موقف القيروان من الإنسان والحضارة، وتنهض بدور اقتصادي واضح المعالم.. ضمن دوائر مدينة القرون.. وفي حسباننا أنها قادرة اليوم أيضا على أداء أدوار بارزة ضمن عولمة القرن الواحد والعشرين، هذا الذي لن نتمكن من التعامل معه إلا بفهم لغة الاقتصاد وإدراك أبعادها الفكرية المتأصلة في التربة الفلسفية العريقة.
القيروان، ضمن لعبة الانفتاح المعاصرة، يمكن ان تنهض بأعمال الفنون والحرف التي برعت فيها خلال القرون الماضية بكيفية ساطعة ناصعة.
فهل ييسر ذلك تنويع المنافسة بين الشمال والجنوب أو بين المشرق والمغرب، على اعتبار وجود مدن أخرى في عالمنا المعاصر تؤدي هذه الوظيفة، ونحن ندرك أنه من واجبنا اليوم أن نفكر ـ تفكير جد ويقين ـ في الانعطاف مجددا على هذه الفنون التي صنعت مجد القيروان.
نستنتج هكذا أن القيروان قد كانت فعلا مستجيبة إلى تلك المقولة الاجتماعية الشهيرة القاضية بأن "الحدث الحضاري حدث شامل أولا يكون".
فهو يستند إلى عناصر متباعدة، يدعو بعضها البعض الآخر ويستحضره. فانتشار البحوث الدينية يقتضي حضور العلماء وازدهار التجارة يستدعي العلوم الرياضية، وازدهار الطب يقتضي الترجمة، وهذا كله يحيل على الكليات.. وهكذا دواليك.فالجزئيات تؤدي إلى الكليات دون تردد، حتى لكأننا فعلا إزاء لعبة "بوزل" ضخمة، أو إزاء لوحة فسيفساء كبيرة.
المهم أن هذه المدينة الكبرى التي أنشئت في شكل حصن شامخ رفيع العماد قد أسهمت في استحداث أشكال فنية ذات مستوى رفيع في مجالات شتى، وفي باب التعامل مع علوم متنوعة غدت مضرب الأمثال شرقا وغربا.
لقد استحضرت القيروان مجمل الحرف الفنية من كامل المغرب العربي، ومن المشرق، حتى غدت مدينة الجمال حقا. إننا في هذه الحالات إزاء آيات من الفن الجميل الذي تحدثه الجارحة بعد أن تكون الروح قد أبدعته في الذهن والوجدان لهذا أصبحت هذه المدينة ذات البعد الرمزي تمثل مقصدا ثابتا في احتفالات الأعراس، وليالي المولد النبوي.
وإننا لنستشعر في أعماق أنفسنا رغبة خفية في عودة هذه المدينة إلى سالف وظيفتها. وفي تقديرنا فإن ذلك ممكن حقا، بفضل اللفتات العليا التي جعلت من هذه المدينة، ومن الولاية التي تحيط بها، نموذجا للجمع بين المصانع الحديثة، والجسور الكبرى، والطرقات السيارة، علما أن المطار الدولي بالنفيضة، وميناء الأعماق سيسهمان ـ إن قليلا أو كثيرا ـ في دعم نهضة هذه الجهة الرمز.
عودا على بدء تدعى هذه المدينة اليوم إلى أداء دورها القديم ضمن حركة العالم المعاصرة، وفي صلب لعبة العولمة الحديثة، بما يدعم حضور الإسلام الحضاري اليوم وغدا، ويؤكد نجاح البلاد التونسية في أكثر من ميدان.
| |
|