بقلم : د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
بولين اسكندر شاب هادئ الطبع لا يدخن و لا يشرب الخمر شديد النفور من الحسناوات .. يهودى متعصب يؤمن بدينه رغم انه كان فى الثلاثين من العمر الا انه كان دائم التردد على المعابد و حائط المبكى كان ضابط و موجه سياسى فى وحدة البالماخ و لهذه الصفات اشتهر فى اوساط الجيش الاسرائيلى بأنه مثقف له قدرة هائلة على التأثير فى نفوس من يسمعه و كانت ندواته تحوز رضا الجميع و كان الكل فى مدينة بئر السبع يكن له الاعجاب و لم يكن يتصور احد انه عميل خطير يعمل لصالح المخابرات المصرية . كان بيته الانيق فى بئر السبع يطل على الطريق المؤدى الى ميناء ايلات و لخبرته العسكرية كان مراقبا يقظا لشمال صحراء النقب و اطلقت عليه المخابرات المصرية : ( عين النقب ) و استخدم هذا اللقب كوسيلة تعارف بينه و بين الرسل الموفدين اليه من المخابرات المصرية .
تبدأ قصته مع المخابرات فى مدينة زيورخ السويسرية خلال جولته السياحية فى عدد من دول اوروبا و فى فندق متوسط المستوى هناك فى شمال مدينة زيورخ عكف على القراءة و اتخذ لنفسه نظاما دقيقا فكان يصحو مبكرا و يتناول افطاره فى غرفته ثم يهبط الى البهو و يحيى صاحبة الفندق و على باب الفندق يستنشق الهواء النقى ثم يقوم برياضة المشى و يعود قرب الظهيرة و يحتسى القهوة ثم يطالع كتاب إلى ان يتناول الغداء فى زاوية بعيدة من المطعم و لا يرفع رأسه عن طبق طعامه و يعتكف امام المدفأه فى المساء يقرأ كتاب و لا يغادر مكانه حتى العشاء و تظل غرفته مضاءة لساعة متأخرة من الليل .و ذات ليله عاصفة فوجئت به ( ماريا ) صاحبة الفندق مرتديا معطفا رفع ياقته حول وجهه و غادر الفندق فى جو عاصف شديد البرودة . و فى الصباح شاهدته لاول مرة على مائدة الافطار و وجهه شاحب و قبل ان يبدأ رياضته الصباحية اتجه الى الهاتف و رفع سماعته ثم التفت حوله و اعادها الى مكانها فقد كان ينوى الاتصال لكنه تراجع ثم ذهب ليمارس رياضة المشى و فى الظهيرة اتصلت به هاتفيا للمرة الاولى امرأه حادثته فى غرفته لدقيقة واحدة طلب بعدها سيارة اجرة ثم هبط من حجرته ممسكا حقيبة صغيرة و كان على عجله من امره و امضى اسبوعاعلى نهجه اليومى و لم يستجد عليه الا حالة اكتئاب كست وجهه و اصبح اقل شهية للطعام و اتصلت به امرأة مرة اخرى و بعد حديث قصير اسرع الى الخارج يبدو عليه المرح فأيقنت صاحبة الفندق ان فى حياته قصة حب لا يريد الافصاح عنها ثم عاد الى الفندق بسيارة خاصة و ليس بسيارة اجرة كما تعود و شاهدته يتبادل حديثا ضاحكا مع محدثته و بعد جولة غامضة ذات مساء عادت اليه حالة الاكتئاب مرة اخرى و رفض تناول الطعام و اعتكف فى غرفته حتى ان ماريا سألته هاتفيا : ( عزيزى بولين هل انت فى حاجة الى استدعاء طبيب ؟ )
فرفض و جاء فى اليوم التالى زائر له ملامح مبهمة و قامة متينة اصطحب بولين الى غرفته فى الفندق و قضيا ساعة ثن هبطا الى البهو و ودعه بولين و عاد الى الهاتف ثم طلب تذكرة سفر الى قبرص . و فى قبرص اختفى بولين بشكل مؤقت حيث نزل فى فندق فلوكسونياباسم مستعار و هو ( فريتز) و بعد اسبوع قدم الى شركة مصر للطيران جواز سفر جديد و حجز مقعدا الى القاهرة و كان فى انتظارة 2 من رجال المخابرات بسيارة سوداء اقلته من المطار إلى شقه مجهزة من اجله فى شارع فؤاد و ساعدوه على التخلص من مكياجه التنكرى و فى المساء دار حديث مهم بينه و بين مدير المخابرات العامة فى اهم غرفة فى جهاز المخابرات و بعدها اصبح اشد تحمسا للعمل مع المصريين و لا تزال تفاصيل الحديث و الاتفاق سرية الا ان نتائجه ان اصبح عميل لمصر فى اسرائيل عرفت المخابرات كيف تستغل المعاناة النفسية التى انتابت بولين عندما شاهد زملائه يموتون فى الحرب فأصابه السخط بعد ان انتشر الادعياء و الانتهازيون و المزورون و تجار الدعارة فى اسرائيل و استطاعوا ان يصلوا الى السلطة بعد ان تاجروا فى كل شئ حتى دماء الشباب اليهودى لصالح مافيا المفرقعات و الاسلحة و كانت المخابرات التقطت هذه المعلومات من المخابرات السوفيتيه التى اتصل بولين باحد ضباطها فى سويسرا . تناول افطاره فى الصبح وسط شباب المخابرات يتوسطهم ضابط كبير و دار الحديث عن الاضطهاد و التشرد و الاذلال الناجم من تعنت اسرائيل .تسلم بولين جهاز لاسلكى و كاميرا صغيرة لتصوير الوثائق و ادوات للكتابة السرية و غادر القاهرة الى اثينا و منها إلى قبرص و فى نيقوسيا عاد للظهور بشخصيته الحقيقية و عندما وصل لبيته فى بئر السبع ارسل اول رسالة الى المخابرات المصرية ايذانا باول جاسوس على دراية واسعة بالشئون و المعدات العسكرية فى النقب و كانت فائدة كبيرة لوجودها فى مفترق الطرق بين اسرائيل و سيناء و كانت كل التحركات العسكرية هناك تجاه ايلات تصل الى القاهرة قبل وصولها الى الوحدات العسكرية .
و لم يأخذ من المخابرات سوى 20 الف دولار فى زيورخ و كان يتحرك بدافع مبادئه للسلام .ارتكب خطأ كبيرا عندما حاول اقناع عريف اسرائيلى يدعى شالوم بالعمل معه و كان شاللوم احد افراد المخابرات الاسرائيلية فى بئر سبع كلف ان يتقرب من بولين بعد ان شعرت بشئ غريب فى المكان .ارسل بولين الى القاهرة يخبرها بتجنيد العريف شالوم الذى يعمل فى سلاح الشارة الاسرائيلى و اندهش رجال المخابرات لانهم لم يكلفوه بتجنيده و ابرقوا اليه يطلبوا منه التخلص منه بسرعة لكن بولين كان واثقا تماما من شالوم و ابرق اليهم انه سيحصل على كل الاتصالات العسكرية فى النقب و صارح شالوم انه يعمل مع المخابرات المصرية و اخبرهم ان شالوم وافق على العمل معه . اسرعت المخابرات المصرية بإرسال احد عملائها الى بئر سبع عن طريق تل ابيب متخفيا فى زى تاجر دراجات فرنسى و سلم رسالة الى رفعت الجمال ( جاك بيتون ) فى شركته السياحية مفادها التمهيد مسبقا مع المخابرات الاسرائيلية لتوصيل معلومة مهمة بطريقة يفهم منها ان مصادفة و قوة الحس الوطنى عند رفعت الجمال و فى بئر سبع اخذ ينفى بولين لعميل المخابرات المصرية شكوك مصر لانهالا تستند الى اساس واضح و كان واضح ان شالوم قد تمكن من كسب ثقته .
و لم يكن مسموح لعميل مصر بإيه معلومات او تعليمات تثبت صدق اقواله و لكنه طلب من بولين ان ينظر من خلف الستارة إلى السيارة اللاسلكية الواقفة قريبا من بيته فاستهتر بولين بهذه المعلومة و قال انه شئ طبيعى فى اسرائيل فدائما ما تتنقل مثل هذه السيارات فى اسرائيل . و طلبت منه مصر امام عناده و اصراره التوقف تماما عن مزاولة نشاطه الى ان تصله اوامر جديدة و بعد 3 اشهر و دون طلب من المخابراتالمصرية ارسل بولين برقيه يستعلم فيها عن الاوامر الجديدة و واصل ارسال المعلومات و طلبت المخابرات منه ان يمتنع عن اجراء اتصال لاسلكى الى اجل غير مسمى و كانت بعض المعلومات التى ارسلها ـ نقلا عن شالوم ـ ايقنت المخابرات المصرية انها مدسوسة بذكاء من المخابرات الاسرائيلية و بعض رسائل البريد التى وصلت منه اخذت طريقها فى هدوء الى لندن تحت رعاية الموساد دون ان تعترضها اسقطت مصر هذا العميل من حساباتها و غادر بولين اسرائيل الى اليونان ..... و ارسل برقية مسبقة الى مصر عن المكان الذى سيقيم فيه هناك و فى اثينا امضى اسبوعين دون ان يتصل به احد من المخابرات المصرية حيث كان حوله رقابة مشددة من الموساد و اتخذت العمليه شكل فكاهى فى اليونان فبولين يسير و يتحرك كالقطة العمياء و خلفه خطوة بخطوة مندوبو الموساد و خلفهم جميعا محمد حسونة المقرن و ماجد حلمى اندرواس مندوبا المخابرات المصرية .عمدت المخابرات المصرية الى حيلة لالتقاط بولين الذى وقع بين فكى الموساد و انه سقط دون ادنى شك و فى المساء طرق غرفته فنى اصلاح التكييف و عندما فتح الباب دلف الى الداخل و سلمه ورقة مكتوبة بالعبرية و اشار اليه بعدم التحدث لوجود اجهزة تنصت فى غرفته و كان بها عزيزى عين النقب ..
انت مراقب ارتدى هذه الملابس و الباروكة و فى الساعة الواحدة و النصف تماما اخرج من غرفتك و اترك الباب مفتوحا ثم استقل المصعد الى الدور السابع سيكون امام الباب فتاة معها شابا كأنهما توأم تأبط ذراع الشاب الخالى و اصعدوا معا السلم الى المرقص فى الدور الثامن تناولوا مشروبا ثم اتجهوا الى المصعد و انزلوا إلى الكراج اسفل الفندق فى البارك رقم 20 المقابل لباب المصعد ستجد سيارة ذات لوحة خضراء Rq979 استقلها مع اصدقائك لو شعرت انك مراقب لا تعد الى الفندق مرة اخرى و سنتولى نحن الامر )و نجحت الحيلة و شقت السيارة طريقها الى ميدان اومونيا ثم إلى شاطئ اثينا و عرجت الى شارع جانبى و عند بوابة حديقة بيت كبير فتحت البوابة و اسرعت السيارة الى الداخل و ودع الاصدقاء صديقهم الذى اقتاده شاب اسمر الى الدور الثانى بعد ان تخلص من ملابس السيدات التى كان يرتديهاو هناك واجه مباشرة اثنين قالا له اننا نتابعك منذ وصولك ولم نتصل بك لانك مراقب من الموساد و لم يكن امامنا الا تلك الطريقة للاتصال بك و قال له ضابط المخابرات : إما ان تسافر الى مصر بجواز سفر اعددناه لك و تحل علينا ضيفا مدى حياتك فقد قدمت لنا خدمات كبيرة و اما ان تغادر هذا البيت الى اى مكان بشرط ان تنسى اى صلة لك بالمصريين . فقد كشفت نفسك بنفسك لانك خرجت عن اتفاقنا و سنكون سعداء بك فى القاهرة ضيفا معززا و اختار بولين الخيار الثانى و حاول اقناع محدثيه بعقم شكوكهم و انه خطط لزيادة شبكته فى اسرائيل و توسيع نطاق معلوماتها و رفض المصريون . و كانت المخابرات المصرية متيقنه من انه سيقبض على بولين ارسلت رسالة الى رفعت الجمال فى تل ابيب : ( هل انعت جاهز للقيام بالعملية السابق افادتك بها و هل اعددت الترتيبات ..)
و جاء الرد نعم لإابرقوا اليه : يؤسفنا كثيرا ان تبلغ عن الضابط بولين اسكندر من بئر سبع انه وفق الخطة 59 عميل للمخابرات الالمانية نحن غير سعداء لذلك و لكنه اختار التهلكة و نحن لا نترك فرصة دون الاستفادة بها لرفع اسهمك و على باب الطائرة فى تل ابيب كانت الموساد فى استقبال بولين و انكر امام المحكمة الاسرائيلية انه يعمل لحساب اى جهة و القى موعظة طويلة امام القضاة هاجم العنصرية الاسرائيلية و التفرقة بين طوائف اليهود و هاجم المتربعين على كراسى السلطو و رفض الدفاع عن نفسه و صدر الحكم بإيداعه السجن مدى الحياة و عدم نشر معلومات عنه فى الصحف.