فشل النظام المصرى فى إدارته للأزمة التى ثارت بمناسبة مرور قافلة «شريان الحياة»، التى قادها النائب البريطانى جورج جالاوى. وتأتى هذه القافلة فى إطار سلسلة قوافل يسعى من خلالها نشطاء المجتمع المدنى للفت أنظار العالم إلى بشاعة الحصار الذى تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، والعمل فى الوقت نفسه على تقديم أكبر قدر ممكن من المعونات الإنسانية للتخفيف من حجم المعاناة التى يتكبدها الشعب الفلسطينى جراء استمرار هذا الحصار الظالم. وكان يفترض أن يتجمع فى القاهرة فى الوقت نفسه ١٤٠٠ شخصية من مختلف أنحاء العالم (بعدد ضحايا شهداء الحرب على غزة)، ثم يتوجهوا إلى رفح بالتزامن مع موعد وصول قافلة جالاوى لتنظيم وقفة تضامنية مع أهالى القطاع فى الذكرى الأولى للحرب، غير أن السلطات المصرية رفضت السماح لهم بالتوجه إلى العريش، مما دفعهم لتنظيم وقفات احتجاجية ضد السلطات المصرية فى القاهرة نفسها! ولأن نظامنا الرسمى اعتاد تسجيل الأصفار فى إدارته للأزمات المختلفة، فمن الواضح أن جلده أصبح سميكا إلى الدرجة التى بدأ يفقد معها الإحساس بفداحة ما قد يترتب على أدائه العاجز من آثار كارثية.. غير أن الصفر الذى حصل عليه هذه المرة يبدو مختلفا عن أصفاره السابقة، لأنه جاء مخضبا بالدم، ومنذرا بعواقب مستقبلية وخيمة. ولكى ندرك حجم الأخطاء التى ارتكبت فى إدارة هذه الأزمة دعونا نسلم جدلا بأن النائب البريطانى جورج جالاوى - مثلما زعم المتحدث الرسمى لوزارة الخارجية المصرية - لم يأت للدفاع عن قضية يؤمن بها وليس معنيا بشىء سوى البقاء فى دائرة الضوء الذى يتيحه له تقمص دور المدافع عن القضايا العربية، بل فلنذهب حتى إلى ما هو أبعد ولنفترض جدلا أيضا أن جالاوى يعمل لحساب قوى معادية لا هَمَّ لها سوى إحراج النظام المصرى وإلقاء مسؤولية تجويع الشعب الفلسطينى المحاصر فى قطاع غزة على كاهله وحده. لكن كان يتعين فى هذه الحالة أن تفطن الخارجية المصرية إلى ما يحاك لها وتختار بين بديلين: إما رفض دخول القافلة أصلا، بحجة أن المشاركين فيها جاءوا لإثارة القلاقل وليس لتقديم معونات، أو السماح لها بالدخول مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لتمكينها من أداء مهمتها بسرعة وتفويت الفرصة على من جاء لتشويه سمعة مصر.. غير أنها اختارت بديلا آخر، عشوائيا وغير مفهوم. وفى تقديرى أنه كان بوسع مصر الرسمية أن تتجنب الكثير مما أحدث وأساء كثيرا لسمعة مصر لو أنها كانت قد قررت منذ اللحظة الأولى التعامل بحسن نية وسمحت للقافلة بالمجىء عبر ميناء نويبع، حتى ولو لم يكن ذلك متفقا عليه من قبل، كما سمحت فى الوقت نفسه للمجموعة التى جاءت عبر القاهرة بعقد مؤتمرها الصحفى والتوجه، محاطة بالحراسة والورود إلى معبر رفح للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطينى. وحتى بافتراض أن بعض المشاركين فى القافلة أو فى مجموعة القاهرة كان يمكن أن يستغلوا المؤتمر الصحفى للإدلاء بتصريحات معادية لموقف مصر الرسمى، وهو أمر لا يمكن استبعاده، فإن الضرر المحتمل، حتى بالمنظور الرسمى نفسه، كان يمكن أن يكون أهون كثيرا من الضرر الذى وقع فعلا بسبب الطريقة التى أدارت بها الحكومة المصرية هذه الأزمة، والذى يمكن تبين أهم أبعاده على النحو التالى: ١- بدت مصر من خلال ما جرى وكأنها الدولة الأكثر اعتراضا على تقديم المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطينى، رغم أنها ليست المسؤولة عن فرض الحصار عليه. فبينما لقيت القافلة استقبالا شعبيا ورسميا مرحبا فى تركيا وسوريا والأردن، كانت تصرفات مصر الرسمية المعرقلة لمسيرة القافلة توحى بضيق غير مبرر، وكأن القافلة وسيلة للتشهير بها وليس لمساعدة الشعب الفلسطينى أو للضغط على إسرائيل لفك الحصار المفروض عليه. ٢- أتاح الإصرار على توجه القافلة إلى ميناء العريش، بدلا من نويبع، فسحة أكبر من الوقت سمحت بتغطية إعلامية أوسع كثيرا مما كان يحلم به مخططو الحملة. وبدلا من أن تصب الحملة جام غضبها على إسرائيل، الدولة المحتلة المنتهكة لحقوق الشعب الفلسطينى والمتسببة فى تجويعه بالحصار الذى تفرضه عليه، صبت جام غضبها على مصر التى تعرقل قافلة تحمل مساعدات إنسانية لشعب شقيق محاصر! ٣- فشلت الخارجية المصرية فشلا ذريعا فى إقناع الرأى العام بسلامة الحجج التى بنت عليها قرارات وتصرفات بدت أمام الجميع متعنتة إلى حد كبير. فلم تكن هناك أسباب منطقية وراء طلب الذهاب إلى ميناء العريش محدود الإمكانيات، وكان بوسع السلطات المصرية أن تزوده بتسهيلات إضافية لضمان سرعة إنهاء الإجراءات وتوفير معاملة لائقة للضيوف، كان بإمكانها إجهاض الاحتقان الذى تطور فيما بعد إلى اشتباكات دامية. وقد أثار الحديث المتكرر عن السيادة واحترام قوانين البلاد حفيظة وسخرية الكثيرين لأن أحدا لم يحاول أو يتعمد المساس بها. ٤- تسبب تصعيد الأزمة فى خسارة مزدوجة لمصر الرسمية، باندلاع مظاهرات شعبية معادية لها فى دول يفترض أنها صديقة، من ناحية، كما أفسح المجال من ناحية أخرى أمام دول غير عربية للقيام بوساطة بدت من خلالها وكأنها أكثر رحمة بالفلسطينيين وحرصا على مصالحهم. لقد كان باستطاعة مصر الرسمية فى الواقع - ولكن من خلال رؤية وسلوك مغايرين - توظيف المناسبة لتركيز الضوء على إسرائيل باعتبارها المجرم الرئيسى المتسبب فى فرض الحصار الظالم على الشعب الفلسطينى، لكنها وبمنطق «اللى على راسه بطحة» تصرفت بعصبية عرضتها لأن تصبح «أضحوكة» الجميع ومُضغة فى كل الأفواه. ومن الواضح أنه لم يكن لدى مصر الرسمية إدراك حقيقى لأهمية الحدث، ولا لدلالاته ومغزاه، ولا لنوعية وتأثير المشاركين فيه على قطاعات واسعة من مجتمع مدنى عالمى مؤثر فى النظام الدولى. لذا بدت غير قادرة فى ثنايا إدارتها لهذه الأزمة على صد لكمات راحت تصوب إليها من كل حدب وصوب، ومن ثم لم يكن غريبا أن تهزم فى تلك المعركة بالضربة القاضية. ولإدراك حجم الخسارة التى لحقت بمصر فى هذه الأزمة، وعلى كل الأصعدة السياسية والإعلامية وحتى الاقتصادية، يكفى أن نتأمل ما ورد فى عشرات المقالات والتعليقات والتقارير المكتوبة والمصورة التى نشرت أو بثت فى معظم وسائل الإعلام العالمية، بما فى ذلك قيام نشطاء غربيين بتوجية نداءات لمواطنيهم بالامتناع عن زيارة بلد يحكمه نظام مستبد، لا تتورع قوات الأمن فيه عن توجيه اللكمات للسيدات المتظاهرات! ربما يكون من الظلم تحميل الخارجية المصرية مسؤولية صفر كبير، مخضب هذه المرة بدماء شهيد مصرى وعشرات الجرحى من المصريين والعرب والأجانب، حصلت عليه مصر فى هذه الأزمة. ولأن أحدا لم يعد يعرف بالضبط كيف يصنع القرار فى هذه الأيام السوداء من تاريخ مصر، فلا مناص من الاعترف بأن «العناد الجاهل» أصبح نمطا شائعا ومتكررا فى عملية اتخاذ القرارات، وفى إدارة كل أنواع الأزمات المحلية والدولية فى تلك المرحلة البائسة. غير أن هذا الوضع الحزين ينبغى ألا يخفى الجريمة التى ارتكبت والتى يجب ألا تمر دون عقاب، فمهما كانت الأخطاء التى وقعت فيها السلطات المصرية، أيا كانت، فى إدارتها لأزمة «قافلة شريان الحياة»، فإن هذه الأخطاء لا تبرر مطلقا جريمة إطلاق النار على الجندى المصرى الذى سقط شهيدا. فإذا صح ما تردد عن أن قناصا من حماس هو الذى أطلق النار، فيجب على حماس أن تحاكمه وأن تنزل به العقاب الذى يستحق فى حال إدانته. وعليها فى جميع الأحوال أن تشرع على الفور فى القيام بتحقيقات نزيهة وشفافة لتحديد المسؤولية فى هذه الجريمة. لا يفوتنى هنا أن أشيد فى الوقت نفسه بحكمة ضبط النفس التى تتحلى بها قوات حرس الحدود المصرية فى مواجهة هذا الشطط. ولنا أن نتصور ما قد يحدث لو قامت القوات المصرية فى لحظة غضب بالرد على النار بالنار.. فهل هذا ما تريده بعض العناصر فى حماس؟! أرجو الانتباه واليقظة، وهما مطلوبان من كل الأطراف.
|