علا الصراخ بشكل غير طبيعي هذه المرة..
سقطت السيارة الصغيرة من يد عبودي وأخذ ينظر إلي بخوف.. يا للمسكين..
أسرعت أغلق باب غرفتي واحتضنت عبودي..
- "خلاص" حبيبي.. لا تخف.. لم يحصل شيء..
- أريد ماما.. أريد ماما..
- ماما مشغولة الآن..
أخذت أمسح شعره بحنان وأنا أكثر حاجة منه لمن يحتويني في هذه اللحظة..
فتحت هيفاء الباب بهدوء ونظرات الخوف تكسو وجهها..
كنت أعرف ماذا تريد أن تقول.. وهي كذلك تعرف ما في قلبي.. كان هناك فقط كم من المشاعر على وجوهنا تتكلم..
دخلت وأغلقت الباب وجلست على سريرها شاحبة.. بينما أصوات الصراخ تعلو..
سكت قليلاً..
- ماذا حصل؟
سألتُها..
- لا أعرف.. ربما لأنها نسيت صنبور الحديقة مفتوحاً!
ساد الصمت مرة أخرى..
- إنه غاضب منذ البارحة.. عمتي منيرة "زعلانة" لأن أمي لم تزرها في المستشفى منذ أول يوم.. وقد صبت غضبها على أبي..
- يا الله!!.. لماذا هم هكذا؟.. مسكينة أمي!.. لقد كان عليها حضور زواج ابن أختها.. كيف تذهب لعمتي؟ ثم إن عملية عمتي هي جيوب أنفية.. لم كل تلك الضجة؟!
- اسأليه!
فجأة رفع عبودي رأسه..
- أبيل.. نلوح سوبلمالكت اليوم؟
أطلقت ضحكة أسالت دموعي الساخنة..
- أي سوبرماركت يا حبيبي..!
وتنهدتُ بحرقة..
- سنقضي أسبوعاً من الألم والنكد والعزلة بسبب مثل هذا الشجار..
استلقت هيفاء على السرير وأعطتني ظهرها.. أحسست أنها تبكي.. ابتلعت غصتي وسكت بينما أصوات الصراخ تعلو.. تقترب وتبتعد أحياناً..
وفجأة سمعت صوت ارتطام شيء..
- وأنت يا ثور..!!
عرفت أنه أحمد.. لا بدَّ وأنه قد مرَّ في منطقة الخطر.. ليحصل على نصيبه من الحلوى..
وبعد قليل فتح الباب بهدوء ودخل..
نظراته الكسيرة توحي بالحيرة والضياع والألم..
جلس على السرير قرب هيفاء.. حك رأسه.. وتناول مجلة أطفال قديمة يتصفحها.. يحاول أن يبدو مشغولاً وغير مهتم..
شعرت بتعاطف كبير معه.. كنت أعلم يقيناً أنه تعرض لضربة موجعة.. لكني لم أشأ أن أكسر شيئاً من كبريائه وهو في سنوات مراهقته الأولى..
بعد قليل تكلم..
- أبي غاضب..!
سكت.. فلا تعليق لدي.. لكني كنت أعرف أنه يريد مدخلاً للحديث..
- كسر لعبة الكمبيوتر الجديدة!
يا الله!!!.. لا يمكن.. مسكين!.. لقد بقي أحمد عاماً كاملاً يجمع من مصروفه وعيدياته ليشتريها.. لا يمكن..!
مسح كتفه ثم ابتسم..
- وضربني بسلكها أيضاً!!
كان يحاول أن يبدي عدم الاهتمام.. لكني كنت قد وصلت إلى حافة الانهيار وأكاد بالفعل أن أبكي.. وتماسكت بصعوبة حتى لا أزيد جراحه..
هدأ الصراخ.. فشعرت بخوف أكثر.. لأن هذا هو الوقت الذي يطل فيه أبي علينا ليلقي تهديده ووعيده..
أخذت أمسح باستمرار على رأس عبودي الذي نام في حضني وغاب – لحسن حظه- عن المشهد..
جو خانق في الغرفة.. لكنه يبدو في الخارج خانقاً ومخيفاً أكثر.. بقينا صامتين.. هيفاء شبه نائمة.. وأحمد يقلب صفحات المجلة القديمة ويحاول أن يبدي اهتمامه بها.. وأنا أصارع دموعي ونشيجي كي لا يظهر..
فُتح الباب بقوة كما توقعنا.. كان غاضباً بشكل رهيب..
وجهه محمر.. عيناه تطلقان الشرر..
صرخ بقوة.. وصرخ.. وصرخ.. وكال الشتائم لأمي أمامنا حتى يغيظنا.. وهدد وهدد..
وكان علينا أن نقف هادئين مطأطئين رؤوسنا باحترام وأن نرضيه ونبدي السعادة أيضاً أمامه..
وحين سكتنا صرخ..
- لماذا أنتم صامتون؟ تكلموا.. هيا.. قولوا شيئاً..
نظرنا لبعضنا في خوف فماذا عسانا نقول؟.. إن أي خطأ أو هفوة بسيطة في الكلام قد تكلفنا صفعة على الوجه..
تطوعت للرد وأنا أرتجف..
- خيراً إن شاء الله يا أبي..
صرخ كمن ينتظر سبباً لإكمال صراخه..
- وأي خير يرتجى منكم ومن أمكم.. أي خير؟
هاه؟.. قولوا.. أيها الـ.. الـ..
واستمر في الإهانات الجارحة التي كانت أقوى من أي صفعة..
في تلك اللحظة.. استيقظ عبودي من النوم.. وبدأ يبكي ويصيح من الخوف.. فازداد غضب أبي.. وصرخ قليلاً ثم أغلق الباب بكل قوته وخرج يكاد يحرق من يمر أمامه..
عندها حضنت عبودي بقوة.. حضنته ووضعت رأسي على رأسه وأخذت أصيح.. وأنشج بقوة.. لم أعد أحتمل..
لأني أحسست بأشياء كثيرة تتحطم في داخلي.. كرامتي.. مشاعري.. روحي.. وحتى حبي لنفسي..
كرهت نفسي لأنها وصلت لهذه المرحلة من الحضيض وتقبل الإهانات.. وبكيت حتى بللت شعر الصغير..
× × ×
بعد سنوات.. بدأت آثار ذلك الألم الذي كنا نعيشه تظهر علينا جميعاً.. كلٌ حسب الطريقة التي اختارها..
هيفاء.. استسلمت لتلك الذكريات.. فهي ترفض الزواج تماماً.. ومتعلقة بأمي بشدة ولا تريد مفارقتها.. علاقتها بأبي رسمية جداً..
أحمد الهادئ.. اختار الهروب من تلك الذكريات.. فترك المنزل.. وأصر على التسجيل في جامعة في مدينة أخرى.. كنت أعلم يقيناً أنه يريد الابتعاد عن والدي وعن المنزل الذي عاش فيه الكثير من الليالي المرعبة..
وعبودي.. الذي كنت أحاول – عبثاً- أن أبعده عن أي مؤثر خارجي كان أقلنا تأثراً.. ربما لأن أبي تغير طبعه بعض الشيء مع كبر سنه.. لكنه لا يزال يعاني من مشاكل دراسية وسرحان.. ولا يزال يبدو يقرض أظافره حتى الآن..
أما عبير.. أنا..
فقد اخترت الطريق الأصعب..
اخترت أن آخذ الأمر كله كتحدٍ.. وصراع.. وأعيش كمقاتل عنيد مع ذكرياتي الأليمة.. حتى أهزمها..
اخترت أن أثبت نفسي وأشق طريقي في الحياة لأعوض شخصيتي المهانة في الطفولة..
درست الطب وتخرجت وتزوجت.. وأنجبت.. وعملت كطبيبة أطفال..
أصبحت أشارك في الكثير من المؤتمرات الدولية.. وألقي المحاضرات بكل ثقة وقوة..
حياتي الأسرية سعيدة جداً ولله الحمد.. فزوجي إنسان هادئ يقدرني ويحترمني.. وأطفالي سعداء ومرتاحون وينعمون بالحب والأمان.. وحين أرى الفرحة في أعينهم أنسى كل آلامي..
أما والدي.. فقد جاهدت كثيراً لكي أتناسى ما فعله بحقنا..
ودعوت الله أن يغفر لنا وله.. قاتلت وحاربت نفسي طويلاً لكي أسامحه وأصفح عنه بصدق.. وبعد سنوات طويلة.. استطعت ذلك بصعوبة.. وعندها فقط شعرت بالراحة والرضا والسلام.. ولم تعد الذكريات تخيفني..
أعلم أنه أمرٍ مغرٍ جداً.. أن تهرب من الذكريات القاسية.. أو تستسلم لها بكل خنوع..
لكني لم أهرب منها.. ولم أستسلم لها أيضاً.. أنا تركتها في مكانها في الذاكرة..
لكني تحديتها.. وواجهتها.. وتغلبت عليها ولله الحمد..
**
مجلة حياة العدد (52) شعبان 1425هـ